Sunday, March 18, 2012

حوجَن - الحلقة الثالثة: وأخيراً عرفتيني يا سوسن! HAWJAN3


رواية حوجن متوفرة لدى سيبويه وأمازون وكندل وبوكاتشينو وقريباً في مكتبات جرير و ڤيرچن. رابط التريلر: 

http://www.youtube.com/watch?v=ItwkSbVMULI


لم أتمالك نفسي.. فسافرت على الفور إلى الهندبة (إحدى قرانا في شمال البحر الأحمر) لأسأل صديقي غرمان عمّا حصل في تلك الليلة.. غرمان حكيم جاوز عمره الخمسماءة عام.. وله معكم يا معشر الإنس عشرة طويلة وخبرة بحكم تنقله بين الكثير من بلدانكم وتعايشه معكم..
- هذي لعبة الأويجي! معقول عمرك ما سمعت عنها؟ نطقها غرمان عندما حكيت له ما حدث ليلة الأمس بالتفصيل..
- أنا: أويجي؟؟! لا والله ما سمعت عنها!.. لعبة؟! معقول؟ دول كانوا مرعوبين وأنا كنت مرعوب أكثر منهم!!
- ضحك غرمان وقال: هذي لعبة قديمة بيننا وبينهم.. ياما لعبناها
- أنا: معقول سوسن وصاحباتها يعرفوا يحضرونا؟؟!
- غرمان: يحضرونا؟! ياخي ليش تكبر الموضوع المسألة أبسط من كذا بكثير.. في الأويجي إحنا ما نحتك بيهم بشكل مباشر.. اللي بيحصل إنه قرناءهم بيشوفوا حركة أيادينا على المضرب فيحسسوهم بهذي الحركة.. وبالتالي يحركوا المضرب مع حركتنا.. القرناء هم الوسطاء بيننا وبينهم.
- أنا: يعني شنوش كان مفهمهم إنه جنية وبيتلبس صاحبتهم..
- غرمان: أكيد.. فيه كثير هوايتهم التسلية مع الإنس.. وتلاقيه كل مرة يألف لهم حكاية جديدة.. وهم يصدقوه.
عدت من الهندبة وفي خاطري هاجس وحيد لم أستطع مقاومته.. معقول أستطيع أن أتواصل مع سوسن!! بدأت تلك الفكرة تسيطر على بالي.. وكلما نفضتها تعاودني وتتملك وجداني بشكل أكبر.. بالذات عندما أراقب سوسن قبل أن أخلد للنوم كل صباح وهي تسقي أزهارها وتغني لها وتكلمها.. ليتني زهرة على نافذتك يا سوسن.. أحيا على عذب مائك وأغانيك وهمساتك..

-   حوجن؟ اش فيك مسرح؟ بتر صوت أمي من خلفي سيل خيالاتي.. فأجبتها مرتبكاً
-       أمي؟ مافي شي عادي..
-   أمي: حالك مو عاجبني يا حوجن، من يوم ما سكنوا الإنس بيتنا وإنت كل يوم تسهر لحد الليل.. قاعد تحوم حولين بنتهم.. مايصير
-   أنا: يا أمي إنتي عارفه إنه هذا بيتنا قبل حتى ما يولدوا ومو سهل أبعد عنه بعد فجأه بعد كل هذي السنين..
-   أمي: حوجن.. أنا أمك.. لا تقعد تلف وتدور.. ما يصير نكشف على عوراتهم في بيتهم.. أصحك يا حوجن تقرب منهم.. أصحك! برضايه عليك يا حوجن.. أبعد عنهم..
-   أنا: بضحكة مصطنعه: اش تقولي يا أمي.. من جدك؟ طبعاً مستحيل أقرب منهم.. إحنا ناقصين مشاكل الإنس فوق مشاكلنا؟!
لم يهدئ كلامي سوى القليل من قلق أمي وهمومها.. ولكن كلامها أشعل كل قلقي وهمومي.. معقول؟ هل تعلقت بإنسية؟ لا لا مستحيل.. أنا الذي عرفت مئات الجنيات ذوات الحسب والأدب والجمال ولم تحرك أياً منهن ذرة من مشاعري.. أجلس تحت شرفة هذه الإنسية وأتأوه على غنائها لأزهارها؟؟!!
معقول؟ بعد أن كنت أشفق على عشاق الإنس الذين ملأوا مجالس الرقاة والمصحات ليتعالجوا من تعلقهم بالإنس.. أصبح أنا واحداً منهم؟! تذكرت عبارة خالتي عندما قلت لها: هل عشقك لذلك الإنسي يستحق أن تدمري حياتك وحياته؟! قالت لي: ياحوجن الحب ما يفرق بين الإنس والجن..
حب؟ معقول أكون وقعت في حب إنسية؟ معقول أحبك يا سوسن؟
في عرفكم حب من هذا النوع يعتبر ضرباً من الخزعبلات.. حتى لو تجاوزنا الاختلاف الجذري في التكوين، مع استحالة التواصل، مع فرق السن الذي قد يشكل مشكلة بالنسبة لكم يا بشر (بالنسبة لنا هذا الفرق طبيعي.. فوالدي أكبر من والدتي باثنين وثمانين عاماً!).. لكني أعود وأكرر مقولة خالتي.. الحب فوق كل الفروقات!!
أقنعت نفسي، أو بالأصح أوهمتها أن القليل من الاهتمام والفضول والإعجاب لا تضر.. وفي نهاية المطاف كل واحد منا في حاله.. في عالمه المخفي عن الآخر.. يكفي أن أراقبك يا سوسن من بعيد.. أستمع وأستمتع بغنائك لأزهارك.
آه.. ولكن ما يمزق خاطري هو أنها لا تشعر بي، لا تدرك أني موجود أصلاً! انقطع حبل خواطري وأنا جالس في غرفة سوسن الخالية بين سريرها ومكتبها عندما انفتح بابها بشدة، ودخلت سوسن وأغلقت الباب خلفها بتوتر.. وأسرعت تفتح كمبيوترها وتضع فيه اسطوانة أخرجتها من حقيبتها. انتقل توتر سوسن وقلقها إلي وأرغمني فضولي مرة أخرى على أن أقف خلف كرسيها وأراقب شاشة اللابتوب.. ظهرت صور سوداء على الشاشة استطعت أن أميز فيها مقاطع لدماغ بشري، وذلك بحكم دراستي حيث أننا نتطرق إلى دراسة التشريح البشري في تعليمنا. قلبت سوسن الصور المقطعية للدماغ وظهرت تلك البقعة التي لا تعني سوى أن صاحب ذلك الدماغ مصاب بورم مميت. التفت إلى سوسن عندما سمعت صوت بكائها الصامت.. وكأنها تخشى أن يشاركها أحد كل ذلك الحزن. رأيت نهر دموعها يسيل على وجنيتها.. ويهطل على الكمبيوتر وعيناها محدقتين في تلك الصورة على الشاشة. مددت يدي إليها، أعلم أنها لن تلمسها، مررت أناملي على وجنتيها، حاولت محاولة متأكد مسبقاً من فشلها أن أمسح تلك الدموع.. رأيت يدها تعبر خلال يدي وهي تمسح دموعها.. انتفضت سوسن ونظرت خلفها وانتفضت أنا مع أني أعلم أنها لم تشعر بي.. ورأيتها تطبق جهازها بعنف وتمسح ما تبقى من دموعها بسرعه وتركض نحو باب الغرفة تفتحه فقد أحست بقدوم والدتها.. خرجت أنا بسرعة والتفت خلفي لأرى سوسن وهي تطفو من أعماق حزنها إلى قمة المرح وهي تحادث والدتها.
هل يعقل أن يكون الدكتور عبدالرحيم مصاب بالسرطان؟ لقد لاحظت حديثه المتكرر عن تقدم السن والآلام التي يعاني منها.. كنت أظن أن كل تلك أعراض طبيعية لشخص عاش نضالاً مريراً لسنوات عديدة فقط كي يؤمن منزلاً لأسرته، ويرى أبناءه يكبرون أمامه ويستعدون لخوض معترك الحياة.. كل من يصل إلى تلك المرحلة تبدأ لديه هواجس الكِبَر.. ولكن لم أتوقع أن يكون الأمر بتلك الخطورة! كل تقديري واحترامي لك يا أيها الدكتور المناضل في زمن استأسد فيه السفلة والمتملقون.
لا أخفيكم أنني أصبحت أتحين الفرص لأتواجد بقرب سوسن، ولكني عاهدت نفسي أن أتحاشى الوجود معها وهي بمفردها احتراماً لخصوصيتها.. وكنت أخون ذلك العهد أحياناً عندما أعجز عن مقاومة مراقبتها من بعيد وهي تمارس عادتها اليومية بتدليل أزهارها فجر كل يوم.
وكانت تلك الليلة عندما خرجت سوسن بصحبة زميلاتها أريج وخلود إلى كوفي شوب على الكورنيش، وكالعادة تغلب علي فضولي فتبعتهم إلى هناك.. ترددت وأنا أنساب خلف سيارة خلود وكدت أن أعود أدراجي عندما تذكرت كلام أمي.. ولكنني استمريت في ملاحقتهم.. وعندما توقفت السيارة عند إشارة المرور اقتربت من نافذة السيارة الخلفية حيث تجلس سوسن وصديقاتها واختلست السمع والنظر إليهن وهن يتبادلن الأحاديث والضحكات عن المواضيع ذاتها: الأولاد ومغامراتهم.. وفجأة شهقت خلود التي كانت تجلس ناحية النافذة التي أنظر منها والتفتت نحوي مباشرة التفاتة أفزعتني لدرجة أنني انسحبت بسرعه.. سألتها سوسن:
-       خلود؟ بسم الله عليكي اش فيه؟
-       خلود: حسيت إنه فيه أحد يطالع علينا من الشباك!
-       أريج: أقول ريحينا يا خلود.. تري محنا ناقصين خزعبلاتك!!
-   سوسن: خلود تري من جد إنت بتتأثري بالأفلام اللي تشوفيها والمواقع اللي منتي راضيه تسيبيها!
-   خلود: والله ما أمزح معاكم.. من جد حسيت إنه فيه خيال واحد يطالع فينا واختفى فجأة!
-   أريج: بالله عليكي لا ترعبيني.. يكفي اللي حصل لرهف ذاك اليوم..
انتهى ذلك الحوار.. ولكن قلقي لم ينته، سمعت من قبل أن بعضكم يشعر بوجودنا، وقد يرانا.. يحكي لي بعض أصدقائي أن أبناءهم يلعبون مع بعض أبناء الإنس، والبعض كان يحلف لي أن هناك أناس يرونه.. على العموم الحجاب الذي بيننا لغز لا نعرف منه إلا الشئ اليسير.
نعود لسوسن وصديقاتها، تبعتهن إلى داخل الكوفي شوب المزدحم، وبدأت أشعر بالتوتر وأنا محاط بهذا الكم من البشر وأصبحت متوجساً من كل شخص ينظر نحوي بعد أن أرعبتني خلود عندما لمحتني من السيارة. لحسن حظي جلس البنات على طاولة بأربع مقاعد، فجلست أنا على المقعد الخالي إلا من حقائبهن. وانشغلت بمراقبة سوسن التي كانت تختلف عنهن، فهي لا تشاركهن ذلك التفكير السطحي وإن كانت تجاملهن بابتساماتها وإيماءاتها وفي عينيها حزن لم يلاحظه أحد غيري. لم تهمني مواضيعهن إلى أن عادت خلود وفتحت سيرتنا.. أقصد سيرة الجن، أعلم أن قصص الجن تحمل لكم الكثير من الإثارة والمتعة والخوف أيضاً، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من جلساتكم وكما ذكرت لكم في بداية سطوري فقد سئمت من المبالغات الأسطورية الخزعبلاتيه التي تضفونها إلى واقعنا! فكل من يلمح ثوباً على حبل الغسيل يدعي أنه رأى شيخاً طائراً بلحية بيضاء يشع النور من عينيه. لكنني بالرغم من ذلك لمست الصدق في كلام خلود وهي تحكي قصصها والمواقف التي حصلت لها شخصياً، فقد كانت جميعها منطقية بالنسبة لي على الأقل. ومع اندماج سوسن وأريج مع قصص خلود فاجأتهم قائلة:
-       اش رأيكم نلعب أويجي؟!
-       سوسن: من جدك؟ إنتي جبتيها معاكي؟
-   أريج: أقول يا خلود روقينا الله يخليكي أنا ملكتي بعد شهر وماني ناقصه أقابل ولد الناس وأنا ملموسة!!
-   خلود (متجاهلة كلام أريج): مو لازم أجيب البورد معايه.. الجن موجودين في كل مكان ونقدر ندردش معاهم وقت ما نحب..
قالتها وأزاحت أكواب القهوة لتنتشل الورقة التي يفترض أن تكون وضعت غطاء للطاولة.. قلبتها على الجهة البيضاء ونادت:
-       Excuse me please
هرع إليها الجرسون وتعجب عندما طلبت منه قلماً فناولها قلمه.. وبدأت تخط الحروف والأرقام على تلك الورقة.. كنت متأكداً أن لوحة الأويجي بذاتها لا تحمل أي تعاويذ، وأن فكرتها قد تنطبق بأي أسلوب.
انتهت خبيرة الجن خلود من تجهيز لوحة الأويجي البدائية، وجالت بعينها تبحث عن شئ ما، وابتسمت وهي تتناول قارورة الماء البلاستيكية من أمام أريج
-       عن إذنك.. حاستلف غطا القارورة..
-   أريج: ايه تبغي تدنبشيني؟ وبعدين عمرك شفتي أويجي عربية؟ والله تطورنا..
-   خلود (متجاهلة تعليق أريج مرة أخرى) يللا يا بنات.. حطوا أصابيعكم..
انتصر الفضول كعادته ووضعت كل منهن سبابتها على الغطاء المقلوب على الورقة.. وقادت خلود الجولة كعادتها وهي تقول:
-       فيه أحد؟ فيه أحد؟
أعتقد أن فضولي تقهقر هذه المرة أمام رعبي منكم، واحترامي لوعد والدتي..
-       فيه أحد؟ فيه أحد؟
كررتها خلود.. وشاركتها أريج هذه المرة..
-       شكلهم الجن مقاطعين ستاربكس!!
قالتها سوسن فضحكت أريج وضحكت أنا معها.. ولكن خلود استمرت:
-       فيه أحد؟ فيه أحد؟
هذه فرصه قد لا تتكرر.. أستطيع أن أتحدث إلى سوسن.. أن أخبرها من أكون، أن أخبرها أن عينيها أذابت الجن! وغناءها أسكرهم!!
-       على قولك شكله فعلاً مافش جن هنا غيرنا
قالتها خلود بعد أن يأست.. فبادرتها أريج بعد أن رفعت إصبعها:
-       يا شيخة إنتي من جدك مصدقة هذي الخزعبلات؟؟ كله شيزوفرينيا يا ماما.. الجن مو فاضين لنا! هاتي غطا القارورة بس، شكله اتدنبش.. يبغالي أشرب خطيبي من هذي القارورة عشان يطيح فيّه أكتر.. ويشوف البنات الباقين كلهم شبه محمد هنيدي..
مددت يدي لا شعورياً إلى يد سوسن.. كمن يتلقف الفازة الكريستالية الثمينة قبل أن تسقط.. ولكنني لم ألحقها.. رفعت أناملها قبل أن أصلها. فبقيت يدي ويد خلود.. حاولت جاهداً أن أحرك ذلك الغطاء تجاه كلمة (نعم).. حاولت وحاولت ولكن الغطاء لم يتزحزح..
-   يابنات لازم نقول مع السلامة إحتياط.. يمكن فيه جني كدا وللا كدا؟ من جد ما بامزح..
تجاهلتها أريج التي انشغلت بالرد على اتصال خطيبها بدلال، ومدت سوسن يدها.. فخفق قلبي (نعم عندي قلب) بعنف وعدت أحرك الغطاء بأناملي المرتعشة.. فتحرك.. تحرك الغطاء متثاقلاً تجاه كلمة (مع السلامة).. فاندهشت خلود وسألت على الفور:
-       فيه أحد؟؟!
حركت الغطاء تجاه كلمة (نعم) فترنح قليلاً على الورقة بين الحروف إلى أن شق طريقه نحوها..
ابتسمت خلود واتسعت عينا سوسن وفغرت أريج:
-       أقول لؤي أكلمك بعدين باي..
وألقت موبايلها.. وهي تقول:
-       بتمزحوا!! بلاش المزح الرزيل دا!
أجابتها خلود:
-       حطي صباعك معانا بسرعة..
وضعت أريج إصبعها على الغطاء، فأحسست أن حركته أصبحت سلسة.. وبدأ يطفو على سطح الورقة فوق كلمة نعم..
أعزائي.. أنا الآن أتكلم مع سوسن..لأول مره في حياتي.. ياترى ماذا أقول لها؟؟ أقول لها أنني جني؟ أكبر سناً من جدها الذي توفى قبل خمسة عشر عاماً؟ وأسكن مع أهلي في بيتها؟؟!! ياله من موقف.. ليتني لم أضع إصبعي.. لولا أني أخشى أن أصيبهم بالهلع كما حصل المرة السابقة لعدم إنهاء اللعبة لرفعت إصبعي على الفور.. سوسن ماذا أقول لك؟ ما الذي يمكن أن يثير إعجابك بي؟ لم تمهلني خلود الوقت لترتيب أفكاري:
-       ذكر وللا أنثى؟
حركت إصبعي فانساب الغطاء على اللوحة:
-       ذ ك ر
-       اش اسمك؟
هل أخبرك باسمي يا سوسن؟ ستستغربين.. وقد تضحكين.. هل أستعير اسماً بشرياً؟.. لا يا سوسن.. لن أخبرك سوى الحقيقة!!
-        ح و ج ن
-       حوجن؟
نطقتها أريج بضم الحاء.. فأصبح فعلاً مضحك! فتحركت بسرعة نحو كلمة (لا) وعدت أرتب الحروف:
-       ح و ج ن
قالت أريج:
-       ما قلنالك حُوجن يا أخي..
قالت سوسن:
-       يمكن حَوجن مو حُوجن.. زي اسمي
أصبت بالذهول.. يالغبائي.. لأول مرة أكتشف أن اسمي قريب لهذه الدرجه من اسمها.. لقد سمعت اسمي منها وكأنما أسمعه لأول مرة في حياتي.. وكأني ولدت للتو وأطلقت هي علي هذا الاسم.. لقد عشقت اسمي.. نطقته سوسن! خرج من بين شفتيها..
أخرجني سؤالهن المشترك من احتفالي الذهني البسيط..
-       اسمك حَوجن؟؟
فقت من ذهولي وتحركت على الفور تجاه كلمة (نعم) وحمت بالغطاء فوقها ثم عدت مرة أخرى على الحروف:
-       ح و ج ن   س و س ن   ح و ج ن   س و س ن
-       الأخ طاح عندك.. جنية من يومك يا سوسن!
قالتها أريج فأشارت إليها خلود بالصمت.. وعادت تستجوبني:
-       كم عمرك يا حوجن؟
أخ! هذا السؤال الذي لم أكن أتمناه أبداً.. ماذا أقول الآن.. قلت لهن العبارة التي افتتحت بها حديثي معكم:
-       ش ا ب
-       90
ضحكت أريج وهي تقول:
-       هاهاهاي.. لوحة سيارة هذي وللا ايش.. والـله هذا الجني فلّه!!
-       خلود: مسختيها يا أريج.. هذا المزح ما ينفع
-       أريج: ما عليكي.. عندنا واسطة.. القيرل فرند حقه سوسن..
على قدر ما ضايقتني مزحتها الأولى.. على قدر ما دغدغت مشاعري مزحتها الثانية..
-       خلود: عمرك تسعين سنة يا حوجن؟
حركت الغطاء بخجل نحو (نعم) وقبل أن أصل مرة أخرى.. نطقت سوسن أخيراً:
-       متزوج؟
-   أريج: أكيد يا بنتي متزوج وعنده خمسين ابن وميتين حفيد.. بيقول لك عمره تسعين سنه!!
قاطعت أنا أريج هذه المرة عندما حركت الغطاء نحو (لا) وقلبي يكاد يقفز من الفرح.. فسؤال سوسن يدل على أنها اقتنعت بأني شاب.. أو هذا ما أحاول إقناع نفسي به! فعادت وسألتني بكل رقة:
-       ليش يا حوجن؟
ولثاني مرة أشعر أني أسمع اسمي لأول مرة.. ولكن بم أجيب؟ أنقذتني أريج التي لا تكف عن المزح:
-       ليه؟ ما عندكم بنات جنيات حلوين زينا؟
فأسرعت إلى (لا) ودرت عليها مراراً.. فضحكن وعقبت أريج كعادتها:
-   ألحقي يا سوسن البوي فريند حقك غزلنجي من أولها!! اسأليه يا خلود كيف شكله؟ فين ساكن؟
أنقذت سوسن الموقف عندما أطلقت إحدى ضحكاتها الرقيقة وقالت:
-   يابنات لازم نروّح، عندنا محاضرات الصبح بدري.. نسيتوا وللا ايه؟
-   أريج: وكمان المطعم كله بيتفرج علينا كأننا البنات اللي في مسلسل انشانتند.. نروح بكرامتنا أحسن قبل لا ينادوا لنا الهيئة..
-       مع السلامة يا حوجن
مزقتني خلود عندما قالتها فاتجهت نحو (مع السلامة) ورفعت يدي، فتوقف الغطاء كالحجر..
-       خلاص؟ أقدر أغطي قارورتي؟.. سامحني يا لؤي!!
لملم البنات أغراضهن استعداداً للانصراف وقالت سوسن:
-       أحسن نشيل الورقه دي لا يجي أحد يشوفها..
أخذت الورقة ودستها في حقيبتها وتركتني في خليط مشاعري.. بقيت في الكوفي شوب.. وصوتها الرقيق يتردد في خاطري عندما نطقت اسمي.. يتكرر بلا توقف حتى أشرقت الشمس.

Sunday, March 11, 2012

حوجَن - الحلقة الثانية: كلمتي الأولى لابنة الإنس HAWJAN 2



رواية حوجن متوفرة لدى سيبويه وأمازون وكندل وبوكاتشينو وقريباً في مكتبات جرير و ڤيرچن. رابط التريلر: 


http://www.youtube.com/watch?v=ItwkSbVMULI


اضطررت لأخذ إجازة طارئة، أمضيتها ما بين تطييب خاطر أمي المسكينه، ومراقبة أفواج العمال الذين بدأوا بتجهيز البيت، دهان الجدران، تغيير الإضاءة، ترتيب الأثاث.. أنتم يا بشر مهووسون بالكماليات، نحن نبني بيوتنا في أيام، وأنتم تمضون نصف أعماركم في بنائها، والنصف الباقي في إتمام إكسسواراتها. كنت أراقبها، زهرة تلك الأسرة.. سوسن. كانت تتقافز بين جنبات غرفتهاالصغيرة، وكأنما ترقص بين شرفات قصر أسطوري، تحمل قصاصاتها الملونه، وعيّنات أقمشة الستائر، وصور الأثاث. الأثاث الذي وضعت أولى لمساته بيديها: حوض أزهارها.
انتقلت الوالدة إلى سطح المنزل بجوار جدي، وفضلت أنا أن أقضي معظم الوقت في الحوش أو في المخزن.. المتشددون من الجن يحرمون العيش في بيوت الإنس، ولكننا نتبع الرأي المعتدل الذي يبيح العيش معهم، أقصد معكم طالما لا يضر أحدنا الآخر، في الواقع أنا لا أملك الخيار هنا فأمي لم ولن تقبل بترك هذا المنزل مهما حاولت إقناعها، ولم ولن أجرؤ على تركها مع جدي. سببت لي حياتي بينكم الكثير من الارتباك في بادئ الأمر، كنت أحرص على أن اتفادى الاحتكاك بكم (من طرف واحد بالطبع)، كنت أحترم جميع خصوصيات تلك الأسرة، ونادراً ما أبقى في نفس الغرفة مع أي منهم. لا أعتقد أن أياً منكم أحس بهذا الشعور من قبل، شعور طاقية الإخفاء، أن ترى شخصاً دون أن يراك، أن تحمل هموم الدنيا وبجوارك شخص يضحك على مشهد كوميدي في التلفزيون، أو أن تستيقظ من نومك فجأة على صوت شجار عائلي محتدم، أو أن تضطر إلى مغادرة الغرفة عندما تدخلها إنسية، وتتسلل خارجاً من الباب قبل أن تغلقه خلفها.. وهذي ليس مجرد مثال، وإنما موقف حصل لي بالفعل، فقد كنت أحن أحياناً لغرفتي.. أقصد غرفة سوسن، فآخذ فيها قيلولتي بعد عودتي من العمل، نوبتي كانت تنتهي الساعة الثامنة صباحاً فأصل في الوقت الذي تكون فيه سوسن قد غادرت لجامعتها، وفي ذلك اليوم كنت منهكاً بالفعل، وغصت في نوم عميق وفجأة دخلت علي سوسن راكضة باكية، وأغلقت بابها خلفها بسرعة وقوة، فلم أستطع أن أخرج، واضطررت للجلوس في غرفتها.
جلست القرفصاء بجوار الباب، في انتظار أي أحد ليفتحه لأبادر بالخروج..
وطال انتظاري، كانت سوسن تبكي بحرقة على سريرها، دفنت رأسها في مخدتها، وانسابت دموعها تسقيها. كنت دائماً أعتقد أننا – معشر الجن – لدينا ما يكفينا من هموم، ولسنا بحاجة إلى المزيد من همومكم وتعقيداتكم يا إنس.. ولكن.. سوسن.. التي لم أرها في حياتي إلا ضاحكة مبتسمة، وكأن عضلات وجهها لا تتقن سوى رسم تلك الابتسامة الطفولية المكسوة بالبراءة وحمرة الخجل.. رأيتها اليوم تبكي وتشهق بشكل أثار شفقتي وفضولي. ما الذي يمكن أن يبكي هذه الطفلة؟ من الذي يمتلك ما يكفي من القسوة لمحو تلك البسمة الملائكية؟ نصف ساعة مرت وأنا جالس في انتظار الفرج، وبكاء سوسن يخبو، ويتحول بالتدريج إلى شهقات بلا نحيب، ثم إلى بكاء صامت لا يقاطعه سوى أنفاسها المحروقة التي تلتقطها مكرهة بين الفينة والأخرى. أفزعني صوت طرقات الباب من خلفي.. هذه أمها تسأل بلهفة: سوسن؟ سوسن! إشبك؟ اش حصل؟ سوسن؟ افتحي يا سوسن.  هبت سوسن، التي لا يهمها أن تتحمل كل آلام الدنيا ولا أن تتحمل لوعة أمها وأبيها عليها. استطاعت بمهارة أدهشتني أن ترسم الابتسامة التي اعتادت عليها عضلات وجهها رغماً عن أنف كل ذلك الحزن الذي لم يتبق منه سوى انتفاخ عينيها واحمرار أنفها. أخفت المخدة المبللة تحت المخدة الأخرى، سحبت منديل لتمسح أنفها وفتحت الباب وهي تقول وبنبرة تستحق عليها الأوسكار على إخفاء البكاء بالزكام الوهمي: ايوه يا ماما.. ايوه..  فتحت الباب، وبادرتها أمها بنظرة قلقة مرتابة: سوسن؟ إنت بتبكي؟! أردت أن أستغل الفرصه وأبادر بالفرار من الغرفة قبل أن أحبس فيها مرة أخرى.. ولكن فضولي غلبني.. فوقفت قرب الباب أراقب الموقف، وأراقب ممثلتنا البارعة وهي تقول بلهجة مسرحية وبحزن مفتعل ساخر: ماما إنتي ما عرفتي إش حصل اليوم في الكلية؟.. جلست على طرف السرير، وتصاعد قلق أمها وهي تقول: خير يا بنتي اش حصل؟
-  سوسن: طلع عندي اختبارين ما كنت داريه عنهم.. وكل البنات والأولاد حلوا كويس وأنا خبصت..
-        أمها (بشهقة): وي.. واش سويتي؟
-        سوسن: اضطريت يا ماما أنقل إجابات فرح صاحبتي..
-        أمها (وقد اتسعت عيناها لآخرهما): ايييييش؟
-  سوسن (مواصلة في مكر وحزن درامي مصطنع): وكفشنا الدكتور!! وقدم أوراقنا للعمادة، واعطوني إنذار بالفصل و..
-        أمها (قاطعتها بعد ما بدأت تستوعب خداع ابنتها): سوووسسسن!!
انفجرت سوسن ضاحكة مداعبة أمها: اش أسويلك يا ماما إنتي بتخلي من الحبة قبة، كلها شوية زكام وطلعتيني بابكي وأولول. قالت لها أمها في مداعبة حازمة وهي تعيد خصلة من شعر سوسن غطت عينها إلى مكانها: دايماً تسويها فيّه.. أنا حاوريكي شغلك بعدين.. يللا غيري ملابسك وانزلي ساعديني في تجهيز الغدا.
خرجت الأم وبادرت أنا بالخروج قبل أن تغلق أم سوسن الباب، وألقيت نظرة أخيرة على سوسن، على عينها التي عادت تقذف الدموع الساخنة التي استطاعت أن تحبسها عن أمها بأعجوبة.
يا ترى مالذي يحزنك يا سوسن؟ أول سبب قد يخطر ببالي هو السبب الذي يبكي كل البنات في سنها: أزمة عاطفية.. اعتقد انها كأكثر الفتيات من حولها قد جرحها الشاطر حسن الذي كانت تحلم به أميراً ينتزعها بذراعه المفتول ليلقي بها خلفه على حصانه الأبيض لتكتشف أنه ليس سوى نذلاً آخر يلقي بها من ميموري هاتفه وقائمة ماسنجره لتفسح المجال للمزيد من المغفلات.. تتكرر القصة معكن يا بنات الإنس.. كل يوم وكل لحظة وأنتن مهووسات بعواطفكن.. لا تتعبن من أحلامكن وأكثركن حظاً هي التي يسعفها ذكاؤها لتفنيد الآدمي من النذل، ويتماسك حياؤها وكرامتها إلى أن تجبره على أخذ الأمور بجدية والقدوم لطرق الباب.  
مرت الأيام بروتينية، كل يوم يعودنا على الوضع أكثر من سابقه، وكانت سعادة سوسن وأهلها بمنزلهم الجديد تزداد. أعتقد أن هذه العائلة إجتماعية بالفطرة، فما لبث بيتهم أن تحول إلى نقطة التجمع المفضلة لمن حولهم، فمن التجمعات العائلية كل خميس وجمعه، إلى جلسات هتان وأصدقائه على البلوت والبلاي ستيشن والأفلام والقليل من المذاكرة، وأخيراً سوسن وصديقاتها وجمعات الودودة ومناقشة مستجدات الميوزك والفاشن والإنترنت.
الكل كان سعيداً بتلك الجمعات.. باستثناء الوالدة. كانت كلما اكتظ البيت كلما ازدادت توتراً.. وازددت أنا تطييباً لخاطرها.
لاحظت خلال تلك الجمعات -أقصد جمعات سوسن- أن إحدى صديقاتها لا تأتي إلا ورفيقها معها، شخص مبتذل تفوح تقاطيع وجهه خبثاً ومكراً. كان يرمقني شذراً كلما عبروا الفناء أثناء دخولهن وخروجهن. نسيت أن أوضح أن شنوش هو جني ساخر أدمن هو الآخر جمعات سوسن وصديقاتها.
لم آبه كثيراً بما يدور بينهن، حتى جاءت تلك الليلة الباردة التي شق سكونها صوت صراخ انطلق من غرفة سوسن، فقفزت على الفور مختلساً النظر من نافذتها نصف المفتوحه لأجد صديقتها رهف تبكي بشكل هستيري والبنات يحاولن تهدءتها وشنوش مستلقٍ في وسط الغرفة وغارق في الضحك. لم أفهم الموقف مطلقاً ولكني لم أتمالك أعصابي فهجمت على ذلك الدنئ صارخاً:
-         اش سويت للبنت يا خسيس؟؟!!
أجابني وهو يحاول التملص من قبضتي دون أن يتوقف ضحكه المستفز:
-  هلا والله يالجني المطوع.. جاي تدافع عن بنات الإنس؟ خايف يحرمونك من بقايا الأكل اللي يرمونها لك في الزباله؟
لم أتمالك أعصابي وأنا أعتصر جسده الهزيل:
-         لو أشوفك هنا مره ثانيه والله لأقتلك!
أفلت الحقير من قبضتي وفر إلى النافذه ورمقني وقد تحولت ضحكاته إلى ابتسامة ساخرة وقال:
-   أقول خليك في حالك يا ملقوف، تدافع عن الإنس وهم أساس البلا! هذولي هم اللي يترجوني أجيهم وألعب معاهم.. أسألهم لو مانك مصدق!
وفر بسرعه تاركاً هلع البنات وحيرتي خلفه.
اندفعت خلود تجاهي وهي تقول:
-         تعالوا يا بنات لازم نصرفها!
لحقت بها أريج وبقيت سوسن بجانب رهف تهدئها.
رأيتهن يتجهن نحوي وينظرن تجاهي.. فأصابني الرعب، فلأول مره أشعر أن أحداً منكم يراني.. ولكنني اكتشفت أنهن كن يتجهن إلى تلك اللوحة الملقاة تحتي ووضعت كل من خلود وأريج إصبعها على ذلك القرص البلاستيكي على اللوحة، وبدأت خلود تقول بصوت لا يخلو من التوتر:
-        مع السلامة..
تحول توترها إلى خوف وهي تكرر:
-        مع السلامة.. مع السلامة..!!
كررت معها أريج وهي تحاول تحريك القرص تحت إصبعها المرتعش:
-        مع السلامة.. مع السلامة يا دليمه..!!
شهقت رهف وهي تراقبهن، توقف بكاؤها فجأه وهي تقول بهلع:
-   شفتوا؟؟ شفتوا؟؟ الجنية تلبستني!! أنا اتلمست، هي قالت رح تتلبسني!! أنا أتلمست!!!

وسوسن تحاول تهدئتها:
-  يا شيخه قولي أعوذ بالله من الشيطان، هذا كله لعب وكلام فاضي، معقول وحده عاقله ومؤمنه زيك تفكر كذا؟
ولكن رهف استمرت تردد:
-         أنا اتلمست!
وكانت عصبية خلود تزداد وهي تهز ذلك القرص أسفل مني وتكرر مع أريج:
-        مع السلامة!!! مع السلامة!!!!
أعرف أن الاحتكاك بكم حرام لا محالة، ولكني في ذلك الموقف لم أستطع أن أمنع نفسي من التدخل لتهدئة الوضع، وجدت نفسي أمد يدي لا شعورياً تجاه القرص على تلك اللوحة التي تراصت عليها حروف إنجليزية مع أرقام وصورتي الشمس والقمر وبعض الكلمات: yes, no, goodbye ففهمت أنهن يردن إنهاء اللعبة فبدأت بتحريك إصبعي على القرص.. مع خلود وأريج.. ورعبت أكثر منهن عندما تحرك وبدأ يحوم على اللوحة مع حركة يدي.. وحركته تجاه عبارة goodbye  وحالما وصل إلى هناك سحبت يدي بسرعه وكأنما خشيت أن يصعقني ذلك الشئ إن استمريت بتحريكه. وشعر الجميع بالارتياح إلا أنا!
أعتقد أنني اترعبت أكثر من رهف! قفزت نحو الشباك وعدت إلى المخزن بسرعة. لم أنم طوال النهار. لأول مره في حياتي أحتك بكم يا إنس بشكل مباشر، لا أعلم إن كان ما عملته حرام أم حلال، ولم ولن أجرؤ أن أبين ذلك للوالدة، ولكنه شعور فعلاً غريب.
تسعون عاماً وأنا أراقبكم ولا أكاد أشعر بوجودكم.. واليوم تواصلت معكم وبشكل مباشر. قلت لكم كلمة واحدة: مع السلامة! وقررت ألا أقول غيرها!